كنت في العاشرة تقريبًا حين أمسكتُ دفترًا أحمر، زينته بورود بلاستيكية بيضاء، واصطحبته معي إلى المدرسة. طلبتُ من رفيقاتي ومعلماتي أن يكتبن لي كلمة أتذكرهنّ بها… وفي صفحاته كتبتُ يومياتي، نسختُ كلمات أغنيات أحببتها، ورسمتُ رسومات لم أعد ارسم مثلها، ولصقتُ صورًا وقصاصات من جريدة الجمعة؛ كان هذا “الترند” في زمن البساطة.
تذكرت الدفتر الأحمر حين جاءتني نصيحة بأن أكتب لا لأن الكتابة مهنتي، ولا لأن الحروف هم رفاق يومي، بل لأكتب كما كنت أفعل طفلةً لا تعرف من الدنيا سوى ما يدهشها. نصيحة قيلت لي لأتنفّس وسط ضغوط الثلاثينيات التي لم نستعد لها، ولا أعرف أصلًا كيف كان يمكن أن نستعد.
لماذا سأمرّر لك هذه النصيحة؟
هذا ما سأحكيه في موضوع اليوم
فقط… حضّر ورقةً وقلمًا.
لماذا نحتاج إلى الكتابة أو التدوين؟
لأن التدوين، يكسر حلقة التفكير المفرط التي تدور في الذهن بلا توقف.
حين نكتب، تتحوّل المشاعر غير الواضحة إلى كلمات يمكن فهمها والتعامل معها، بدل أن تبقى ثقلًا مبهمًا في الداخل.
الكتابة تمنحك مسافة آمنة بينك وبين المشكلة؛ مساحة صغيرة تكفي لترى الأمور كما هي، لا كما يضخّمها القلق. ومع كل سطر، يتضح ما يمكنك تغييره فعلًا، وما يجب أن يُترك لزمنه. والجميل أن الورقة لا ترد، ولا تقاطع، ولا تحكم ولهذا تظل أكثر الأماكن أمانًا لقول الحقيقة كما هي.
ما الذي يحدث في الدماغ عندما ندوّن؟
تشير أبحاث إلى أن التدوين:
◾يقلل نشاط اللوزة الدماغية Amygdala المسؤولة عن الاستجابة للضغط والخوف.
◾ينشّط القشرة الجبهية Prefrontal Cortex المسؤولة عن اتخاذ القرار وتنظيم الانفعالات.
◾يساعد الدماغ على “ترتيب الأحداث” بدل تدويرها بشكل مرهق داخل العقل.
يعني التدوين يحوّل المشاعر من “ضوضاء داخلية” إلى “معلومة يمكن التعامل معها”.
كيف تدون؟
-صفحات الصباح – Julia Cameron (The Artist’s Way)
هذا الكتاب كان موجه للفنانين، ليقاوموا به الشلل الإبداعي، ولكن يبدو أن هذه الطريقة أفادت الكثير من غير الفنانين
لبدء اليوم بذهن صافي، غير مزدحم فتقلل من القلق وتزيد الإبداع لأنها تزيح “الأفكار المزعجة” مبكرًا.
-نظام خمس دقائق – The Five Minute Journal
طريقة بسيطة ومباشرة، مناسبة لمن لا يملك وقتًا أو من يستصعب 3 صفحات:
3 أشياء ممتنة لها
3 نوايا لليوم
شيء واحد سار مساءً
تركّز على إعادة تدوير الانتباه نحو ما يفيد بدل التفكير التلقائي السلبي.
التدوين العلاجي – Pennebaker Method
اكتب 15 دقيقة عن مشكلة واحدة فقط.
لا تتوقف، ولا تعود للتنسيق.
والسؤال الأهم هو ماذا تكتب؟
المفترض أن تكتب بلا هدف، ولكن في البداية قد تحتاج لإطار بسيط لتبدأ ويمكن أن تكتب واحدًا من الآتي:
ما يشغل بالك الآن؟ جملة واحدة فقط.
ما الذي يتعبك؟ اكتبه كما يخرج دون محاولة تهذيب.
ما الذي تود تغييره؟ خطوة صغيرة وليس مشروع حياة.
اكتب سؤال بلا إجابة: العقل سيكمل العمل لاحقًا.
ملخّص اليوم: ماذا تعلّمت؟ ما الذي تكرر؟ ما الذي أثار انتباهك؟
هل نكتب رقميًا أم بالورقة والقلم؟
تظهر دراسات Mueller & Oppenheimer أن الكتابة بالورقة والقلم تُفعِّل مناطق أعمق في الدماغ، وتبطئ الإيقاع بما يكفي لفرز الأفكار وترتيبها. الحركة البطيئة للقلم تجبر العقل على التركيز، لذلك يتذكر الكاتب ما يسجّله، ويفهم مشاعره بصورة أوضح. هذا النوع من التدوين يشبه “تهدئة ذهنية” تساعد على الخروج من الضوضاء الداخلية.
في المقابل، التدوين الرقمي أسرع وأكثر عملية. يسهّل الاستمرار اليومي، وإضافة الملاحظات، والعودة إليها لاحقًا. مناسب لمن يريد متابعة تقدّم معيّن أو كتابة سريعة قبل النوم. لكنه لا يمنح العمق نفسه للمعالجة الشعورية، لأن السرعة تقلّل من حضور الذهن أثناء الكتابة.
لا يوجد خيار “أفضل”. هناك خيار أنسب لما تحتاجه الآن..
والآن حان الوقت لتكتب أنت.
خصّص دقيقتين فقط بعد قراءة هذه النشرة، واكتب جملة واحدة عمّا يشغلك. لا تفكّر كثيرًا في الصياغة؛ ليست هناك طريقة صحيحة أو خاطئة. الكتابة هنا ليست اختبارًا…
وإذا رغبت، يمكنك مشاركة هذا السطر معنا بشكل مجهول تمامًا عبر تقييم النشرة. اكتب… قد تكون هذه أبسط بداية لصفحة جديدة لك.
