في إحدى دورات الكتابة، سألتنا المدربة:
لو كانت هذه لحظتك الأخيرة… لو كانت فرصتك الوحيدة لتنصح العالم بشيء واحد فقط، والكل سيستمع إليك — ماذا ستقول؟
لم أتردد، كانت إجابتي:
«عيشوا أكثر.»
لكن كيف يعيش الإنسان أكثر؟
أليس العمر والموت والحياة قدرًا مكتوبًا لا يد لنا فيه؟
بالطبع، ولكن العيش ليس سنواتٍ تُعدّ، بل تجارب تُعاش — تجارب خِفت منها ثم خضتها، مشكلات واجهتها ثم حللتها، دروس تعلمتها حتى لو كانت مؤلمة.
ثم تفكرت في حال أولئك الذين أجرموا… فكانت عقوبتهم السجن. ولم السجن؟
لأن فيه تتوقف الحياة.
يتوقف العيش رغم امتلاء الرئتين بالهواء، رغم خفقان القلب، ورغم كل العلامات الحيوية.
المفترض أنها فقدان للحرية، لكنني أرى أنها فقدان فرص التجربة، فما الفرق بين قضبان السجن وغرفتك؟
سجن بلا قضبان
لم يعد السجن اليوم جدرانًا عالية، بل شاشة مضيئة وسقف لا نغادره.
نحن الجيل الذي يُسمّى علميًا “الجيل الداخلي” (Indoor Generation) نقضي أكثر من 90٪ من حياتنا داخل أماكن مغلقة، بحسب دراسة عالمية من شركة Velux عام 2018.
البيوت، المكاتب، السيارات، المولات… كلها أماكن “آمنة”، لكنها تسرق منا شيئًا فشيئًا إحساسنا بالحياة.
الكاتب الأمريكي هنري ديفيد ثورو كتب في Walden:
“ذهبتُ إلى الغابة لأنني أردت أن أعيش عن قصد.”
ذهب ليختبر الحياة لا ليقرأ عنها، ليشعر بها لا ليشاهدها من خلف الزجاج.
العزلة الحديثة سجن ناعم يُطفئ التجربة ببطء.
حين تقلّ التجارب..
يقول علماء الأعصاب إن الدماغ يُعاد تشكيله مع كل تجربة جديدة
وفي دراسة من جامعة نيويورك (Kleim & Jones, Nature Reviews Neuroscience, 2008)، ثبُت أن التجارب تُنبت وصلات عصبية جديدة، بينما يذبلها الروتين.
عالم النفس ميهالي كتب في كتابه Flow:
“أفضل لحظات حياتنا ليست تلك المريحة أو المسترخية، بل حين نُختبر عند حدود قدراتنا.”
السعادة الحقيقية لا تولد من الراحة، بل من التحدّي، من الدخول في تجربة تجعلنا ننسى الوقت لأننا نعيش حقًا.
وفي تجربة من جامعة ستانفورد، وُجد أن المشي في الطبيعة لمدة 90 دقيقة يخفض نشاط المنطقة الدماغية المرتبطة بالتفكير السلبي المستمر، أي أن مجرد الخروج من الجدران قد يعيد ترتيب أفكارنا.
اخرج من الأمان إلى الاتساع
أن تعيش أكثر لا يعني أن تُغامر بلا حساب، بل أن توسّع حدودك الآمنة.
أن تجرّب ما لم تفعله من قبل: رياضة، مكان، لغة، حديث صادق، أو حتى طريق جديد إلى العمل.
فيكتور فرانكل، مؤلف Man’s Search for Meaning، كتب:
“الحياة لا تُصبح لا تُطاق بسبب الظروف، بل بسبب غياب المعنى.”
والمعنى لا يُكتشف داخل الغرف، بل يُخلق في التجربة.
كل تجربة، “حتى تلك التي تُربكك” تُضيف عمرًا داخلك،
تجعلك “تعيش” أكثر من كثيرين تنفّسوا أكثر، لكنهم لم يشعروا بشيء.
ربما الحياة ليست أنفاسًا تُعدّ، بل تجارب تُعاش.
ربما من لم يخرج من مساحته المألوفة يشيخ في العشرين، ومن يجرؤ على التجربة حقًا… لا يشيخ أبدًا.
فيا أعزائي “عيشوا أكثر.” ليس بطول الأيام، بل بعُمقها.




